تأملات في المزامير الرب
راعي أ/ مز 22 23 بقلم قداسة : البابا شنودة الثالث
هذا المزمور هو من مزامير صلاة الساعة الثالثة. ويسمي
مزمور الراعي, وهو مزمور محبوب من جميع الناس. وله
ميزة أنه لا توجد فيه أية طلبة.
المرتل لا يطلب فيه شيئا.. ولا يوجد فيه اعتراف
بالخطية, ولا توسل لنوال الغفران, ولا حزن ولا انسحاق.
إنما يشمل إحساسا بوجود الله في حياة الإنسان. فرح
برعاية الله وعنايته فيقول في ذلك: الرب يرعاني فلا
يعوزني شئ, في مراع خضر يربضني, وإلي ماء الراحة
يوردني. كون أنك تشعر أنك محتاج إلي رعاية, هي حالة
من الاتضاع. وكون أنك تشعر أن الله هو الذي يرعاك.
لاشك أن ذلك يغرس في
نفسك شعورا بالاطمئنان, وفيها شكر لله, وسلام قلبي..
عبارة الرب يرعاني معناها أنني لست وحدي. أنا لا أعيش
في هذه الدنيا وحيدا متعبا, بعيدا عن المعونة.. إنما
الرب يرعاني. الناس لهم من يهتم بهم, ولهم من يسندهم
ويحميهم ويرعاهم. أما أنا فلي الله نفسه. الله نفسه هو
الذي يرعاني. ولأن الله هو الذي يرعاني, لذلك لا
يعوزني شئ.
ما دام الله يرعاني, فسوف
أعيش في سلام وفي اطمئنان, وفي فرح لا يدخل القلق
كله, وهذا حق. ولكني هنا أتكلم عن علاقة خاصة لي مع
الله. أنا شخصيا لي علاقة مع الله. وأنا شخصيا - كفرد
كإنسان - أشعر بيد الله في حياتي, وأشعر بأن الله
يرعاني, وأنه يهتم بي. هذه مشاعر قلب فرحان بربنا, قلب
حاسس بربنا في حياته, شاعر بوجود ربنا في حياته,
وبحفظ الله وستر الله, ومعونة الله, واهتمام الله به
بصفة خاصة. يعني أنك لست تائها أو ضائعا وسط ملايين
من البشر الذين يهتم بهم الله. إنما لك علاقة خاصة
مع الله.
لست ضائعا وسط الزحمة ما
أكثر وجود رعاة لهم آلاف من الناس يرعونهم. وعلي
الرغم من هذا يوجود واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر
يضيعون وسط زحام الناس من حولهم. لا يحس بهم الراعي
لكثرة مشغولياته!! أما أنا فالرب يرعاني. وفي وسط ملايين
الملايين من مخلوقاته, يعطيني اهتماما خاصا في حياتي,
بسبب المحبة التي بيني وبينه. هذه نقطة عملية مفرحة
بلا شك. يفرح قلبي طبعا أن أشعر بهذا.. وهذه النقطة
المفرحة نجدها في القداس الغريغوري: ففي صلواته نجد
علاقة خاصة بين الفرد والله يقول له أقمت لي السماء
سقفا. ومهدت لي الأرض لكي أمشي عليها يقول لي, وليس
لنا.. هذه السماء أقامها الله لأجلي أنا.
ومهد الأرض من أجلي
أنا.. ويقول أيضا من أجلي ألجمت البحر. من أجلي أخضعت
طبيعة الحيوان.. أرسلت الناموس من أجلي... شعورك بعلاقة
خاصة بينك وبين الله. الله ليس فقط إلها للعالم كله,
وأنت مجرد شئ بسيط في العالم.
وإنما هو أيضا إله لك
أنت بالذات. ربنا كما صلب ومات لأجل العالم, هو كذلك
صلب ومات لأجلك أنت. ومن أجلك أنت بالذات, لأجل خطاياك
الخاصة. هكذا أحب الله العالم.. (يو 3:16). وهكذا أحبك
أنت كفرد. الرب يرعاني شعور جميل عن رعاية الله. وربنا
فعلا يحب الرعاية. والرعاية لها معني خاص عنده.
ويقول أنا هو الراعي
الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف (يو 10:11).
والرسول يتكلم عن الله فيقول عنه راعي أنفسكم وأسقفها
(1بط 2:25). ثم يسميه أيضا رئيس الرعاة (1بط 5:4). وفي
سفر حزقيال النبي يقول أنا أرعي غنمي وأربضها - يقول
السيد الرب - وأطلب الضال, وأسترد المطرود, وأجبر الكسير,
وأعصب الجريح.. (حز 34:15). والله أقام في الأرض رعاة من
رجال الكهنوت. ويقول القديس بولس الرسول عن ذلك لأساقفة
أفسس احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح
القدس فيها أساقفة, لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه
(أع 20:2. إنه عمل رعاية, وعصا رعاية تعطي للأسقف في
يوم سيامته..
وفي الواقع أن الراعي له
في الكنيسة مكانة معينة.. سأشرح قليلا عنها لنفهم
مكانتها.. كثير من الناس الذين ائتمنهم الله علي شعبه,
جعلهم يشتغلون بالرعي أولا: موسي تهذب بكل حكمة المصريين
(أع 7:22). ولكن هذا لم يكن كافيا. تربي في القصر
الملكي بكل تربية أولاد الملوك. وتدرب علي أمور من
قيادة الجيش, ولكن كل ذلك لمن يكن كافيا. فأخذه الله
وجعله يرعي الغنم لمدة أربعين سنة, فلماذا؟ لأن مهنة
الرعي تعطي عواطف الحب والحنان والشفقة, والهدوء والطيبة.
الراعي يحب غنماته, ويشفق عليها كل الإشفاق ويقوده إلي
العشب الأخضر وإلي الماء.
وتوجد علاقة طيبة وارتباط
بين الراعي وغنمه. تجد الراعي يمشي, والغنم تتبعه وتمشي
وراءه. حيثما يسير, غنماته معه.
في كل اتجاه يتجه إليه. خرافي تسمع صوتي وتتبعني..
تميز صوتي وتتبعه أما الغريب فلا تتبعه, بل تهرب منه,
لأنها لا تعرف صوت الغرباء هكذا قال الرب (يو 10: 5,4).
لو أن أحدا فيكم رأي زريبة غنم, وقد فتح الراعي
بابها, سيري أن كل الغنم متجهة بأنظارها إليه. تعرف
وتركز وجهها فيه, وتتعلق به..
والغنم أيضا تميز صوته,
وتحبه, وهو يحبها. والراعي يبذل نفسه عن الخراف.. جميلة
عبارة تسمع صوتي, ولا تسمع لصوت الغريب. يظن البعض أن
الغنم لا تفهم! كلا, إنها تميز صوت راعيها, وتحبه,
وتنظر إليه, وتسعي وراءه وتتبعه حيثما سار. إن الغنم
لو كانت ترعي في أرض معشبة, وتجد أن راعيها قد ترك
المكان, تترك العشب وتسعي وراءه. إن الراعي عندها أهم
من العشب ومن الطعام.. إنه قلبها المحب اللطيف. والراعي
يمسك عصا, يقود بها غنمه. لا يضرب بها أبدا. إنما
يرشد بها. وفي إرشاده للغنم, قد يمسها بعصاه, ولكنه لا
يضربها. لذلك قال داود في المزمور: عصاك وعكازك, هما
يعزيانني. سبب تعزية لي. متي تكون العصا سبب تعزية؟ هذا
أمر يعرفه الرعاة, وتعرفه الرعية. إن عصا الراعي ليست
للتأديب أو للأذي, إنما للإرشاد والتوجيه بطريقة خفيفة.
والخراف تحب عصا الراعي حينما تلمس أجسادها.. تدرب كثير
من الآباء علي الرعي, قبل أن يدخلوا إلي الرعاية. داود
النبي - مثل موسي النبي - تدرب في الرعي. هذا الذي
قال الرب يرعاني, كان من أنجح الرعاة في التاريخ. ولم
يكن راعيا عاديا. كان يمشي معهم بالمزمار والقيثار, يغني
لهم أغاني حلوة. لم يحدث أن غنيمات قد سمعت راعيا
حلو الصوت مثل داود..!
إنه راع موسيقي, راع
يغني, راع عازف.. إنه الراعي الذي كان يشنف أسماع
غنيماته, وليس فقط يأخذها إلي الخضرة.. كانت الغنيمات
تأكل, وتسمع الموسيقي في نفس الوقت.. أية غنيمات تمتعت
بمثل هذا؟! حينما يقل داود الرب يرعاني, إنما يقولها
وهو فاهم تماما معني الرعاية. من النوع الجميل الذي
تدرب عليه هو نفسه. إن النفس المحبة لله تقول في سفر
النشيد أنا لحبيبي, وحبيبي لي, الراعي بين السوسن (نش
6:3). يرعاني وسط الورود والزنابق.. يرعي النفس. لذلك
حينما نتكلم عن كلمة الراعي, إنما نتكلم عن كلمة كبيرة
وعميقة.
داود رعي الغنم, والله
رعاه. والقديس أوغسطينوس يقول لله وهو يصلي من أجل
شعبه: أنا يارب بالنسبة إليهم الراعي. ولكن بالنسبة إليك
مجرد خروف صغير من قطيعك.. أطلب إليك أن ترعاني
وترعاهم. الله هو الراعي المهتم بالكل. إنه الراعي
الصالح. الذي لما كان يرعي مائة, وواحد منها قد تاه.
ترك التسعة والتسعين, وذهب يبحث عن الواحد. أي لا يترك
أحدا من رعايت. بل يهتم بالكل. يبحث عن الضال في
وسط الجبال والتلال طافرا علي الجبال, وقافزا علي التلا
(نش 2: يبحث عن رعيته. إنه الراعي الصالح الذي يبذل
نفسه عن الخراف. الكتاب يقدم لنا أمثلة عديدة لرعاية
ربنا. رعاية الشعب في البرية. يظللهم ويقودهم بالسحاب في
النهار, وبعمود النار في الليل (خر 13:21). الراعي الذي
يرسل لهم المن والسلوي (خر 16), ويفجر لهم الماء من
الصخرة (خر 17: 6).. الراعي الذي يقود إلي مراع خضراء..
الذي كان يرعي يونان وهو في بطن الحوت (يون 2),
ودانيال وهو في جب الأسود (دا 6). ويرعي الثلاثة فتية
وهم في أتون النار (دا 3). ويرعي المسبيين وهم عند
أنهار بابل.. إن أمثلة رعاية الله لا تدخل تحت حصر..
وحينما نقول الرب يرعاني
إنما نقصد يرعاني ماديا وروحيا. تشمل رعايته الأمرين
معا. يرعي الجسد والروح, وكذلك النفس والعقل والفكر.
إنها رعاية شاملة لذلك قال داود في المزمور... لا
يعوزني شئ... كل إنسان يمكنه أن يقول, إن كثيرا من
الناس يرعونني. أبي وأمي يهتمان برعايتي في أمور الجسد,
فيعطياني كفايتي من طعام وشراب وكساء. ويوجد مدرسون في
المدارس يرعونني من جهة الثقافة والعلم والتهذيب. كذلك
الدولة ترعاني, تعطيني الأمن والتموين والمسكن واحتياجات
الحياة من كافة النواحي.. أما الله فيعطيني الكل. لا
يعوزني شئ. إنه الراعي الذي تتمثل فيه كل احتياجاتي.
منذ أن عرفت الله, لم أعد معوزا شيئا.. هو وكفي. لا
أريد غيره. لا يعوزني شئ. هو يرعاني. لذلك فإن الذين
اختبروا رعاية الله, لم يعتمدوا علي ذراع بشرية. ولا
علي الذات, ولا علي العالم, بل حينما آمن برعاية الله
له, واختبرها في حياته, لم يعد معوزا لشئ. ولا يعوزني
أحد. ولا أتكل علي ذراع بشر. هو الرب الذي يرعاني,
ولا يعوزني شئ.
إنها عبارة يقولها الفرد,
وتقولها الكنيسة, ويقولها العالم كله. هو يرعانا, ولسنا
محتاجين لشئ. لأن الله في رعايته لا يغفل شيئا من
احتياجات الإنسان. بل يقول: إن أباكم السماوي يعلم أنكم
تحتاجون إلي هذه كلها. لكن اطلبوا أولا ملكوت الله
وبره. وكل هذه تزاد لكم (مت 6: 22, 23). كل هذه
تزادونها. لا يترككم محتاجين لشئ. الله الذي يرعي عصافير
السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلي مخازن
(مت 6:26). هو يرعاكم الذي يرعي الفراشة التي تطير,
والدودة التي تدب تحت الحجر.. الكل ينال من رعايته..
لذلك قل هذه العبارة بإيمان: الرب يرعاني, فلا يعوزني
شئ... يقول هذه العبارة إنسان اختبر الله وعاش معه.
وذاق الله, كما يقول المزمور ذوقوا وانظروا ما أطيب
الرب (مز 34: . انظروا ماذا قال داود أيضا في خبراته
الروحية: كنت فتي والآن شخت. ولم أجد صديقا تخلي عنه,
أو فتية له يلتمسون خبزا (مز 37: 35).
جربت ربنا وعرفته. معاملات
الله ليست أشياء أقرأها في الكتاب المقدس, إنما هي في
حياتي العملية. جربتها وعشتها. ومن خبراتي أقول: الرب
يرعاني فلا يعوزني شئ. ينبغي أن تؤمن أن الله يرعاك
لكي تطمئن من الداخل. مسكين الإنسان الذي لا يشعر أنه
تحت رعاية الله. وأنه محتاج لأحد. كلا إن الله فيه
الكفاية. لكي يذكر السيد المسيح تلاميذه بالرعاية الإلهية,
قال لهم ذات مرة حينما أرسلتكم بلا كيس ولا مزود
ولا أحذية, هل أعوزكم شئ؟ قالوا: لا (لو 22: 35). أليس
الله يرعي الراهب المتوحد في أعماق الجبل وسط الوحوش
والدبيب, وعدم وجود لوازم الحياة الأساسية! الله يجعل
قوانين الطبيعة في رعايتك. النبات والحيوان من أجل
رعايتك.. في النهار مثلا تقول: هذه الشمس أرسلها الله
لرعايتي, تعطيني النور والدفء.. وهكذا النجوم بالليل..
كلها لي.. وكذلك القمر الجميل الهادئ. ولذلك فإن أولاد
الذين آمنوا برعايته, سلموا له الحياة بالكامل.
كل منهم يقول: أنا لا
أقود نفسي, ولا أرعي نفسي, لأن الرب يرعاني. أسلم له
نفسي بالكامل, وأنام مطمئنا في الأحضان الإلهية, شاعرا
بالقلب المحب الذي أسند عليه رأسي. إنها حياة التسليم
إيمانا برعاية الله. احذر من أن تشك في أي وقت, مهما
كانت الظروف. بطرس الرسول مشي مع الرب علي الماء.
ولكنه إذ وجد الريح شديدة, خاف وابتدأ يغرق (مت 14: 30).
نسي أن الرب يرعاه, فبدأ يسقط في الماء. فقال له
الرب يا قليل الإيمان, لماذ شككت؟! (مت 14:31). هل الرب
يرعاك وأنت ماش في الطريق, ولا يرعاك وأنت ماش علي
الماء؟ نعم, إنه يرعاني حتي وأنا في جوف الحوت.. في
كل مكان. إن الذي يقول الرب يرعاني, يمتلئ بالإيمان.
الرب يرعاني, مهما كانت الظروف الخارجية صعبة.. داود قال
هذه العبارة, علي الرغم من كل فترات الذل والضيق التي
قاساها, وبخاصة من شاول الملك الذي كان يطارده في كل
مكان ليقتله.
وجرب أبشالوم ابنه الخائن,
وجرب الحروب والكروب. وفي كل ذلك يقول: الرب يرعاني.
ليس معني رعاية الرب. أن يجعله يسير في الطريق الواسع!
كلا, بل يرعاه في وسط الضيقة.